الأصالة الفكرية تبدأ من جذور ثابتة تمنح الإنسان وعيًا مستقلًا وصوتًا حقيقيًا وسط ضجيج الآراء.
٤ نوفمبر ٢٠٢٥
في زمنٍ تتشابه فيه الأصوات حتى لا نكاد نميز بين الصدى والأصل،
أصبحنا نحسن الإصغاء أكثر مما نحسن التفكير،
ونجيد التكرار أكثر مما نجيد الاكتشاف.
نميل لما يقوله الآخرون لا لأننا نؤمن به،
بل لأننا نخشى أن نبدو مختلفين.
نخاف أن تُرى ملامحنا الحقيقية في ضوء الوضوح،
فنستتر بالجمع خوفًا من فرادتنا.
لكن الوعي لا يولد في الزحام،
بل في لحظة صدق مع الذات.
والقوة لا تكون في ارتفاع الصوت،
بل في صداه العميق حين يخرج من فكرٍ نقي وقلبٍ مؤمن بما يقول.
أن يكون للإنسان صوته لا يعني أن ينعزل عن الناس،
بل أن ينصت إليهم دون أن يفقد ملامحه.
أن يصغي ليفهم، لا ليكرر،
وأن يقول ما يراه لا ما يُقال حوله.
أصالة الفطرة:
العقل البشري خُلق وفيه نزعة نحو الثبات، نحو أصل يرجع إليه حين يضطرب كل شيء.
فالمبدأ ليس قيدًا، بل بوصلة. وحين يفقد الإنسان بوصلته، تغدو الأصوات من حوله أشد من صمته، والآراء أضخم من وعيه.
وفي رحلة الإنسان مع ذاته لا يُطلب منه أن يكون صدى لأحد، بل أن يكون صادقًا مع نفسه، مخلصًا لفطرته الأولى.
من عرف نفسه لم يضِع بين المظاهر، ومن سمع صوته الداخلي بصدق لن يحتاج أن يرفع صوته ليقنع العالم بما هو مقتنعٌ به أصلًا.
كل ما فينا يضطرب حين نلبس آراء الآخرين كأنها أثوابنا، لكننا نهدأ حين نعود إلى ما نؤمن به حقًا، حين نعيش كما خُلقنا لا كما يُراد لنا أن نكون.
بين العلم والإيمان:
العقل هبة إلهية كُرّم بها الإنسان، وجُعلت وسيلته للتفكر والتدبر.
العقل البشري بحاجة إلى مرجعية داخلية واضحة، أي أن يكون لكل إنسان أصل ومبدأ ثابت يبني عليه قراراته وسلوكه.
علميًا، تشير الدراسات في علم النفس وعلم الأعصاب إلى أن الهوية القوية والمبادئ الثابتة تمنح الإنسان:
• ثقة بالنفس وتقليل القلق عند مواجهة الاختلاف أو الضغوط.
• قدرة أفضل على اتخاذ القرارات دون تشتت أو تأرجح بين الآراء الخارجية.
• استقرارًا عاطفيًا ونفسيًا، لأن الدماغ يفرز مواد تساعد على الشعور بالأمان حين يعرف الشخص حدوده ومبادئه.
أما من الناحية الدينية، فالقرآن والسنة يوجهان الإنسان إلى الثبات على المبادئ والصدق مع الذات.
قال تعالى:
﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾ [الحشر: 19]
هذه الآية تبيّن أن من فقد جذوره الروحية وأصله ضاع وانسلخ عن نفسه.
وورد عن النبي ﷺ:
«المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير.»
فالقوة هنا ليست جسدية فقط، بل هي قوة الاعتقاد والمبدأ والثبات على الحق.
بالتالي، العلم والدين يتفقان على أن الإنسان الذي يعرف أصله ويحدد مبادئه ويعيش وفقها، يكون أكثر صفاءً فكريًا وهدوءًا نفسيًا، وأكثر قدرة على ترك أثر حقيقي في الحياة.
الأصل والكيان الداخلي للإنسان هما مصدر قوته وثباته، ومن فقد جذوره الروحية أو القيمية قد يضيع بين الضجيج والآراء المتضاربة.
التشبث بالأصالة والكيان الحقيقي لا يعني الانعزال أو العناد، بل يعني معرفة القيم والمبادئ والعيش وفقها بثبات وهدوء واحترام للآخرين.
إنها الجذور التي تمنح الإنسان القدرة على الصمود أمام الضغوط والعواصف، كما تُشبه الشجرة العميقة الجذور التي تنمو بقوة وثبات.
أصل المبدأ بين العلم والإيمان:
تلك ليست مجرد آية، بل تذكير بأن فقدان الأصل هو فقدان للذات.
وأن الذاكرة الإيمانية للإنسان — صلته بخالقه ومبدئه وضميره — هي التي تحفظ اتزانه حين تميل الحياة من حوله.
القوة ليست جسدية فقط، بل هي قوة المبدأ وثبات القلب وصون الهوية.
في النهاية، الأصالة ليست قيدًا، بل اتزان بين الثابت والمتغير.
بين أن يفكر الإنسان بعقله الحديث، ويثبت بجذوره القديمة،
بين أن يصنع أثره لا ليُشاهَد، بل ليفهَم.
الكاتبة :
رويدا نايف الرويلي
التصميم :
رنا العتيبي
رزان فايز
روابي العتيبي
تذكار محمد
حُرر بواسطة :
وصال الهذلي
بإشراف:
منار الطويرقي
وسن الثبيتي